نعود الى شربل عندما نفتقد الشرفاء

   للشاعر شربل بعيني الذي هاجر الى أستراليا منذ أكثر من عشرين سنة، والذي يلقّب بحق شاعر الغربة الطويلة، رصيد لا يستهان به من الحب الذي يكنه له أبناء الجالية اللبنانية والعربية هنا.
   ومبعث هذا الحب ليس غزارة انتاجه الشعري الذي يملأ الصحف الصادرة أسبوعياً في سيدني، وليس كثرة الكتب التي صدرت له، والمسرحيات التي أنتجها، أو مساهماته الفعالة في نشاطات رابطة إحياء التراث العربي وغيرها من الأنشطة الأدبية والشعرية، بالاضافة لكتابة الأغاني والاهتمام العميق بالاطفال الى حدود عبادتهم وتقديسهم.
   وليس أيضاً الطيبة التي يتحلّى بها، والتي تلازمه في عسره ويسره، بل قدرته الفائقة على الثبوت وعدم الانجرار وراء العصبيات الحزبية أو الطائفية، وصبره الطويل على الذين يحاولون النيل من موقعه الأصيل هذا.
   فمنذ العام 1975 حتى اليوم، أي منذ ابتداء الحرب الأهلية في لبنان وما رافقها من تذابح بغيض تحت مختلف الحجج الواهية، الى الزمن الراهن حيث تستمر اللهجة الطائفية البشعة بأثواب وأقنعة منوعة متباينة، وشربل بعيني ما يزال الشاعر الصامد على معتقده، القابض على الجمرة في حب الناس جميعاً، بغض النظر عن مشاربهم مهما اختلفت ومهما تنوعت.
   ويخطىء من يظن أن معتقد شربل الحب والتسامح وحسب، ولكن كما السيّد المسيح رفع الوردة الى الصدارة، ورفع الكرباج أيضاً بوجه لصوص الهيكل، فإن شاعرنا البعيني لم يتوانَ في مسلكه الشخصي، وفي قصائده، عن رفض البغضاء، بل دعا أيضاً الى مواجهتها ومكافحتها من وحي فلسفته في الحياة انه لا بد للوردة من الأشواك تحميها من عبث العابثين، ولا بد لبيوت الفضيلة والتسامح من أسيجة ترد عنها كيد المكيدين.
   والقصائد التي نظمها خلال السنوات الطويلة الفائتة شاهد حي على ما نذهب. فهي بمعظمها نقية من الأدران، بعيدة عن المثالب والأحقاد، نظيفة الكف واللسان، وفي الوقت نفسه داعية شريفة الى الوحدة والتماسك، ومحرضة لصون الأرض والعرض من اعتداءات الفريسيين الذين يتوغلون بيننا، والطامعين الكثر الذين يترصدون لشعوبنا في لبنان وبلاد العرب عموماً.
   والحق ان معظم ما قرأناه من انتاج شاعرنا المحبوب، وبعد التوقف ملياً أمام الكثير من صوره وأفكاره ومعانيه، خرجنا بنتيجة أن شربل واحد في جميع ما كتب، نقياً، صابراً، شجاعاً، توحيدياً، لبنانياً، عربياً، وللقدس المغتصبة شأن في قلبه وتقديس.
   ورب متسائل عن مناسبة الحديث على مناقبية شاعر الغربة الطويلة، ودوافع ذكر مواقفه وأياديه البيضاء ونقاء سريرته. وبصراحة نؤكد أننا نشهد في أستراليا وخصوصاً في هذه الآونة تطرفاً مذهبياً عند البعض يثير القلق والمخاوف، ولا يتوقف هذا التطرف عند من يتعاطى الشأن السياسي بل يتعداه الى بعض المستشعرين ممن لا يتوانى لحظة عن تقبيلك عندما تكون حاضراً، ثم لا يتردد عن طعنك حين تكون بعيداً عن مشاهد النظر، ممتشقاً القلم خنجراً، والقصيدة سيفاً مسموماً للتحريض العنصري والطائفي.
     في مجلس ضمنا مع أصدقاء متنورين أعلنا ان الطائفيين من مختلف الأديان الى تزايد، وبينهم من يدعون الوطنية والقومية، وان علينا مواجهتهم حتى لا يتفاقم نفوذهم وخطرهم.
   وأعلنا أيضاً أن الشرفاء أنبياء يجب إعزازهم وإكرامهم، حين يقل الشرفاء ونبحث عنهم فلا نجدهم إلا فرادى.
   من وحي هذه العبارة هذه المقالة، وإلى شربل بعيني شاعر الكلمة الطيبة والفعل الحسن تعظيمنا وحبنا.
النهار، العدد 765، 27 آب 1992
**