كيف أينعت السنابل؟ أبيض وأسود في وريقات دفتر الغربة

   يبكي، يغضب، يثور، يتألّم، يناشد الحبيبة أن تفتح له ذراعيها لتقيه غائلة "الوحدة"، يسأل المدينة عن علامات فارقة يحملها وشم انتماء الى الارض التي ابتلعتها الحرائق، وتركتها سوداء، ليس غير الموت يجوب أطرافها، كأنه يبحث عن بقيّة باقية أسعفتها الصدفة، فهامت على وجهها لا تلوي على غير النجاة.
   عاقل، لأنه صاحب "دعوة الى الجنون".
   مبروك، لأنه يستمطر "لعنة الله".
   مشرّد في البلاد، يستشعر اليتم، فيناجيها أن تكون أمه، وممزق، فيسطّر "وريقات" في دفتر غربته عن الماء الذي في فمه، وعن لوح الزجاج الذي يتحطّم في داخله، لأنه إنسان تخلّت عنه السماء، فتناهشته الذئاب، ونهبته اللصوص، ورقد عاجزاً إلا عن رؤية الباطل يزهق الحق، والظالم يقاضي الضحيّة، والعبث الأسود يشرّع قوانينه الجديدة في إرم ذات العماد.
   شربل بعيني، شاعر، الطفل فيه حاضر دائماً، لأنه أصدق، لأنه لا يعرف المداهنة، أو اختلاق الأعذار والمبررات، ولأنه من طينة البراءة الأولى والحب الأول، لذلك يصرخ إذا تشكى، ويضحك إذا ناغجته أم حنون. أبيض وأسود، هكذا كل شيء، فإما الثورة على كل شيء، وإما اللعنة على كل شيء، ولا شيء بين الجنّة الموعودة للأنقياء والثائرين، وجهنم التي للمستكينين سواسية مع الظالمين، لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس، وشربل لا يحب الشياطين، ولا الساكتين عن عبث الشياطين.
  "كيف أينعت السنابل؟"، كتاب شعري جديد لشاعر الغربة الطويلة، يحكي قصة عذاب شعب تقاذفته أيدي شر، فشردته "أيدي سبأ"، ولم يبقَ منه إلا شبه أطلال على مبان مزقتها قذائف، وحقول رعاها بوار، وجثث لضحايا أبرياء كانوا مثل كل البشر يحلمون بغد أجمل، فلم يأتِ، لأن أحفاد هولاكو وفرانكو لم يشأوا، فتوزعتهم أرصفة تخضّبت بالدم، لتشهد على بشاعة جريمة وحقارة أيدٍ لا تعرف إلا القتل والتدمير:
كي يصير الموت دوله
ترتمي، كالعار، في حضن أمير.
   وفي إحدى قصائد الكتاب "عرسنا استقلال"، يؤكد الشاعر نزاهته وصدقه، فهو لا يتهيّب، مهما كان، عن قول الحقيقة في فضح تجار "عصر المغاور"، الذين يوقعون بالفقير فـ"يعلبون لحمه، ويشربون دمه". وكيف يتهيّب؟ وكيف يهادن؟ وهو الذي حفظ وصاياها ـ المدينة، الأم، الحبيبة ـ محفورة على لوح قلبه:
أنت التي أوصيتني
ونهيتني
عن مسح جوخ الذلّ والعارِ
أو ابتياع الحقّ من أشداق سمسارِ
   فما أقبحهم، الذين يعدون ويكذبون، ويحكمون للظالم على المظلوم، ويزرعون الأرض، طولاً وعرضاً، ذلاً ونفاقاً وشقاقاً، وما كان ليصير لولا المداهنة والمراوغة، ولولا "حوت الكذب فينا"، الذي  "ما زال يبتلع الحقيقه"، كما ورد في "كيف أينعت السنابل؟" القصيدة عنوان الكتاب.
   شربل بعيني يتأوّه، يستصرخ، ويمتليء بالأنين والدموع والإحساس بالضياع، والغربة في معظم صفحات كتابه، الأفضل بين كتبه الشعرية، وهو يتوسل المدينة ـ الملجأ لو تكسر قيد يديه، وتعتقه، وتطلقه حراً بعيداً عن عسس السلطان وشرطته، والقبائل العائدة إلينا، والشعارات المزيفة، التي ترفع لواء العيش المشترك، لتغطي عورة الغبن والقهر، وترفع عقيرتها بالثقافة والحضارة والمدنية، لتخفي كل مظاهر الجاهلية فيها والتخلف والرجعية:
خلصيني من عشائرك
ومن عساكرك
ومن شعارات لئيمة
   مرة أخرى يطل علينا شربل بعيني بقصائد مؤثرة، تحبها "بهيسة"، ليحكي لنا قصة "كيف أينعت السنابل؟" وكيف تتناهش الضباع جسد الوطن الصغير، وكيف يثور الرجال الرجال على الذل والمهانة والاستصغار والجريمة.
   ومرة أخرى، يرفع شربل بعيني صوته ليضمّه إلى أصوات الشرفاء الذين يكرهون معادلة "خوف وغبن"، والذين ينتصرون للديمقراطية الحقيقية، والعلمانية، وللشعب، ليكون سيد قراره، فخوراً بين شعوب الأرض بأصالته، وعراقته، وتاريخه المجيد في صنع الحضارة الانسانية جمعاء.
البيرق، العدد 48، 26/1/1987
**